يعود تاريخ قصر " باردو " الواقع في الضاحية الغربية للعاصمة التونسيّة إلى ما يقارب ستة قرون من الزمن امتزج فيها بأغلب الأحداث التاريخية الحديثة والمعاصرة التي عرفتها البلاد التونسية. وقد اختلفت أدواره على مدى هذه القرون فتحوّل من منتزه ملكيّ في عهد الحفصيين المنشئين إلى مقر إقامة أميريّ تقام فيه المواكب السلطانية في عهد المراديين. واتخذه بعض أمرائهم مقرّا للحكم، وأصبح عاصمة ملك في عهد الحسينيين فمقرّا لسيادة الشّعب في دولة الاستقلال احتضن أعمال المجلس القومي التأسيسي (1956-1959) وفيه تمّ إعلان الجمهورية (25 جويلية 1957) وشهد المراحل التأسيسيّة لبناء الدولة الحديثة. ودارت بين جنباته أعمال المجالس النيابية بطريقة متواصلة حتّى اليوم.
وقد عرف القصر الأصليّ عديد الإضافات منذ اتخاذه مقرّا للسلطة التشريعيّة وشملته عملية توسعة كبيرة في تسعينات القرن الماضي بإضافة جناح جديد ليلائم أكثر حاجيات العمل النيابيّ روعي فيها عناصر العمارة المميّزة للقصر الأصليّ.
فقصر باردو اليوم يجمع بجناحيه القديم والجديد بين الأصالة والمعاصرة تتمازج فيه فنون الهندسة التونسيّة والأندلسيّة والأوروبية، يجمع بين الأنماط القديمة والإضافات الحديثة تتآلف في تفاعل حضاريّ لطيف يزيده رونقا وجمالا مما جعله نموذجا من أروع نماذج الفنّ المعماريّ التونسيّ بكامل مظاهر تطوّره وعناصر تأثّره من القرن الثامن عشر وإلى اليوم من حيث الهندسة المعمارية والتّزويق والنّقش بمختلف أصنافه (على الجبس والخشب والحجارة والرخام).
قصر باردو عبر التاريخ
القرون الخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر
يرجع ذكر كلمة باردو لأول مرّة في أثر مكتوب إلى القرن الرّابع عشر حسب ما ذكره روبار برنشفيك في كتابه " تاريخ افريقية في العهد الحفصيّ" في عهد السلطان أبي فارس عبد العزيز (1394-1434م) بقوله" ثمّ ظهر في عهد أبي فارس ..قصر جديد ضاحويّ وهو قصر باردو الشهير المقتبس لامحالة من إسبانيا، وقد ورد ذكره للمرّة الأولى في نصّ مكتوب مؤرّخ في 823هـ/1420م ووصفه بعد ذلك بخمسين سنة أدورون (رحالة بلجيكي زار تونس سنة م 1470م) مشيرا إلى وجود شارع طويل وعريض محاط بسور يؤدّي إلى باب المدخل الرئيسيّ ونقتطف من وصفه ما يلي:" يبلغ طول ذلك الشارع نصف ميل أو أكثر، وترتفع على جانبيه القصور الملكيّة العظيمة والرّائعة والبالغ عددها ستة فمن تلك الطريق يجتاز الملك البساتين ليذهب إلى تلك القصور على الأقلّ إذا كان راغبا في إظهار نفسه أمّا إذا كان لا يريد أن يراه النّاس فإنّه يعبر راجلا أو على صهوة جواده دهاليز شاسعة تبلغ من العرض ما يمكّن ستة فرسان من العبور في صفّ واحد للتحوّل إلى قصره"
ونجد وصفا له في كتاب الرحالة الحسن الوزّان (ليون الافريقي) حيث قام بسفارات رسمية لدى السلطات الحفصيّة في بداية القرن السادس عشر(1520 م) ووصف الوزّان الفاسيّ باردو في كتابه "وصف افريقيا " بقوله " يوجد في خارج تونس ممتلكات بديعة تنتج فواكه عجيبة بكمّيات قليلة لكنّها في غاية الجودة وهناك ما لايحصى من البساتين المغروسة بالبرتقال واللّيمون وغيره من الأزهار الجميلة خصوصا في مكان يدعى الباردو حيث بساتين الملك وقصوره الفخمة البهية بمختلف النّحوت والرسوم الجميلة" إذن وحسب هذه النّصوص القديمة فقد اتّخذ أمراء العائلة الحفصيّة ضاحية باردو مقرا لهم فأسّسوا القصور وأحدثوا البساتين معتمدين في ذلك على الأسرى الذين كان جلّهم من الإسبان ويرجع لفظ " باردو " إلى أصل إسباني على الأرجح وتعني "المرج" والمرج في كتب اللّغة معناه الأرض الفسيحة ذات النبات الكثير .
واستمر بعد الدولة الحفصيّة أمراء الدولة المراديّة في العناية بباردو فأسّسوا به المباني الجديدة خصوصا في عهد " حمودة باشا المرادي1631-1666 م". وقد اتّخذ المراديون باردو مكانا للرّاحة والابتعاد عن مشاغل الحاضرة وإقامة المواكب السلطانية. ويبدو أنّ باردو قد اتخذ مقرا للسكنى وإدارة شؤون الدولة لأول مرّة مع " محمد بن مراد بن حمودة باشا المرادي 1686-1696 م" الذي يعود إليه حسب المؤرخين تشييد قصر باردو، ولكن باردو لم يلق في آخر أيام المراديين مالقيه من أوائلهم
القرنان الثامن عشر والتاسع عشر
استقر ّحسين بن علي (1705م) مؤسّس الدولة الحسينيّة في قصر باردو وفي عهده أضحت مدينة باردو مدينة الملك المستقلّة عن الحاضرة وقد زاد أمراء الدولة الحسينيّة من بعده في تحصينها فشيدوا الأسوار والأبراج وحفروا الخنادق من حولها حتى جعلوها قلعة حصينة بعد استقرار الأمر للأمراء الحسينيين، وتفرّغوا إلى زيادة أجزاء في القصر وتفنّنوا في تزويقه وتزيينه كل حسب ما يهواه وما يتأثر به من أنماط المعمار وفنونه المحليّة والأجنبيّة فأصبح قصر باردو معلما يجمع فنون شتى من فنون الهندسة والبناء التونسيّة والأندلسيّة والأوروبية تتمازج في تفاعل حضاريّ لطيف تزيده رونقا وجمالا حتى صار قصر باردو نموذجا من أروع نماذج الفن التونسيّ بكامل مظاهر تطوّره ومختلف عناصر تأثّره من القرن الثامن عشر إلى أواخر القرن التاسع عشر من حيث الهندسة المعماريّة والتّزويق والنّقش بمختلف أصنافه (على الجبس والخشب والحجارة والرّخام)
أهم المعالم والقاعات التاريخية بقصر مجلس النواب
المدخل:
اشتهر بدرجه المحاط يمينا وشمالا بثمانية أسود من المرمر ويفصل بين هذا الدرج وصحن القصر رواق ذو أقواس منقوشة من الجبس حسب أسلوب تقليديّ وأشكال هندسيّة مقتبسة من الفن
الأندلسيّ ويعرف هذا الأسلوب في اصطلاح التونسيين "بالنقش حديدة"، وترتكز هذه الأقو حديدة"، وترتكز هذه الأقواس على أعمدة من المرمر تنتهي بتيجان.
المحكمة :
على يمين الداخل إلى القصر قاعة مستطيلة الشكل ذات جدران مزوّقة بالرخام تحتوي على ثلاثة مساكب يفصل بينها صفان من الأقواس المرتكزة على أعمدة رخامية، وهذه القاعة هي المحكمة التي أنشأها " علي باشا بن محمد " ( 1735 – 1736 م) وقد وضع فيها أمراء البيت الحسيني عرشا في صدارة القاعة حيث يتولى الباي إصدار الأحكام ويحيط به أعضاء عائلته والوزراء ورجال القضاء ويدخل إليها المشتكون .
صحن القصر :
يحيط بهذه المساحة المبلّطة بالرخام الأبيض أربعة أروقة ذات الأعمدة المرمرية الأنيقة وقاعات اقتبال من أهمها:
تتميز هذه القاعة الفخمة بشكلها المتقاطع وبزخرفة جدرانها بالمرمر والتربيعات الخزفيّة من الخزف التونسيّ ذي الطابع المتفرّد، كما تتميز بأقواسها المبنية بالرّخام الأبيض والأسود المرصّف بالتناوب حسب النموذج المشرقيّ الذي ظهر في بلادنا منذ العصر الحفصيّ وترتكز هذه الأقواس على أعمدة مرمرية سوداء وبيضاء.
يصل الزائر إليها بعد المرور عبر صحن ثان يقترب في شكله وزخرفته من الأول لكنه أصغر مساحة وأروقته غير مقوّسة، وأطلق هذا الاسم " بيت البلاّر " على هذه القاعة التي تأوي الآن مكتب رئيس مجلس نواب الشعب إشارة إلى المرايا التي وضعت تحت سقفها الرّائع لإعطاء المزيد من البهجة واللّمعان إلى سقفها الخشبيّ المنمّق بأوراق الذّهب والمنقوش بالأشكال الهندسيّة المشتبكة الأنيقة المعروفة في الفن الإسلاميّ في الأندلس وبلاد المغرب، وكان في صدر هذه القاعة عرش إذ أنّ الباي كان يستقبل في بيت البلاّر المقربين له من خواص وأعضاء المجلس الشرعيّ قبل أن يلتحق بقاعة العرش.
"البيت الكبيرة" أو "الصالة" ( أنشأها أحمد باشا باي1837-1855) على نمط أوربيّ ويظهر هذا التأثير جليا في السقف الخشبيّ المغطى بنسيج مزوق وملوّن. وقد كانت هذه القاعة معدّة للمواكب الرسمية وتحتوي مرايا كبيرة ذات الإطار المذهّب (تسمى العلاجي جمع علجية)
- القاعة العرش :
وهي القاعة القديمة للجلسات أنشأها " أحمد باشا باي " ( 1837 – 1855 ) على نمط أوربيّ ويظهر هذا الأمر جليا في السقف الخشبيّ المغطى بنسيج مزوق وملوّن، ويمكن الوصول إليها بدرج شرفيّ يرتبط بالصحن الأوّل الكبير وكان بها عرش في الصدارة، وقد كانت مخصّصة للمواكب الرّسمية وكانت بالقاعة نوافذ من جهة واحدة فقط وصور زيتية كبيرة للبايات معلّقة على الحائطين المتقابلين، وفي عهد الاستقلال وقع حفر نوافذ من الجهة اليمنى قصد تنوير القاعة وإدخال بعض التحويرات حتى تكون قاعة للجلسات العامة.
البناية الجديدة وقاعة الاجتماعات
أمام تطوّر العمل النيابي وتزايد عدد النواب تقرّر سنة 1989 توسيع مقر مجلس النواب فتمت إضافة جناح جديد متكامل يضمّ خصوصا قاعة كبرى للجلسات العامة أنشئت بشكل دائريّ مدرّج وأحيطت بـ 24 قوسا ترتكز على أعمدة تعلوها قبة كبيرة تغطي كامل القاعة وقد قسّمت هذه القبة إلى 24 جزأ نصف مخروط ومنقوش بنقش حديدة وكسيت جدرانها المحيطية وكذ المنبر الشرفي بالخشب الرفيع.
كما تحتوي على قاعات لاجتماعات اللّجان ومكاتب إدارية ويربط بين البنايتين رواق فسيح على طابقين يشرف على الساحة الشرفية من جهة والحدائق الجديدة المحدثة من الجهة الثانية، وقد روعي في إنجاز البناية الجديدة هدفان اثنان المحافظة على الطّابع التاريخيّ والمعماريّ للقصر أولا وتحقيق الاندماج والتّناسق التّام بين البنايتين ثانيا.