ألقى السيد إبراهيم بودربالة، رئيس مجلس نواب الشّعب صباح اليوم الثلاثاء 06 جوان 2023 بقاعة حمادي الساحلي بالمعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر، بالمركب الجامعي بمنوبة، محاضرة اختتام السنة الجامعية للمعهد، تحت عنوان " محاكمات أواخر حكم الرئيس بورقيبة كما عشتها 1978-1987" وذلك بحضور نائبي رئيس المجلس وعدد من النواب، وعدد من أساتذة المعهد وإطاراته ومن المحامين ورجال الفكر والباحثين والمؤرخين والاعلاميين.
وبيّن أنه حضر أغلب الاستنطاقات والمرافعات، كشاهد في أول قضية سياسية بذلك الحجم، مؤكّدا ما تميّز به الرئيس من قدرة في إدارة الجلسة وكيفية الاستنطاقات والاصغاء الى المرافعات، وقد اعتبره مثالا في الاستقامة على الصعيد المهني والإجرائي.
وأشار الى جوانب من الأجواء التي ميّزت تلك القضية والتي بيّنت أن المحكمة كانت تحاكم نخبة من إطارات الدولة ومن الشخصيات التي تحمّلت مسؤوليات في وقت معيّن. كما استعرض الاحكام التي صدرت بخصوص 33 متهما وتراوحت بين 11 سنة وعدم سماع الدعوى، مشيرا الى مختلف التهم ومنها بالخصوص محاولة الاعتداء على أمن الدولة الداخلي بهدف تبديل هيئة الدولة، والنيل من كرامة رئيس الجمهورية والمسؤولين من أعضاء الحكومة، ومسك وترويج مناشير من شانها ان تعكّر صفو النظام العام، ونشر الاخبار الزائفة، وتكوين جمعية غير مرخص فيها والانتماء اليها.
وتعرّض العميد إبراهيم بودربالة من جهة أخرى الى محاكمات 1978 المرتبطة بالخلاف مع الاتحاد العام التونسي للشغل، مشيرا الى ان العميد المرحوم منصور الشفي كان متحمّسا للدفاع عن كل المحالين فيها وهو الذي نسّق عمليات الدفاع وحضور المحامين وواكب كل الاستنطاقات امام قاضي التحقيق.
وبين أن هذه القضية تدلّ من منظور اجتماعي على الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في ذلك الوقت والذي اتسم بتقدّم سن المرحوم الزعيم الحبيب بورقيبة وبالصراعات بين مختلف الاجنحة السياسية. وبيّن أنها انطلقت بصراع ظاهره بين الاتحاد العام التونسي للشغل والمرحوم الهادي نويرة ولكنه كان أعمق وارتبط بالعلاقات مع ليبيا وبالوحدة التي أعلنت في 12 جانفي 1974 وما تبعها من خيارات اقتصادية كان يعارضها الكثير من التونسيين باعتبارها لا تحقق العدالة الاجتماعية مما تحوّل الى صراع قدّم خلاله العديد من الوزراء استقالاتهم من حكومة الهادي نويرة. وأشار في هذا السياق الى اعلان الاضراب العام بكامل البلاد من قبل الاتحاد في 25 جانفي 1978، مستعرضا تطوّرات الاحداث وما وصلت اليه من ازهاق أرواح بشرية والتسبّب في عديد الجرحى، فأضحت القضية قضية أمن دولة.
وأشار العميد إبراهيم بودربالة الى نيابته لخمسة شخصيات في هذه القضية، مستظهرا في هذا الصدد باستدعاء من طرف قاضي التحقيق في القضية عدد 38987/2 بتاريخ 1 افريل 1978، إضافة الى بطاقة زيارة سجين بتاريخ 6 ديسمبر 1978 لزيارة كل من حسن حمودية ومحمد الدامي، واستدعاء من محكمة أمن الدولة، وغيرها من الوثائق المرتبطة بهذه القضية.
واعتبر ان هذه الأخيرة مثّلت احداثا هامة بالنسبة للبلاد ولمهنة المحاماة التي واكبها آنذاك عدد هام من المحامين الشبان من تونس العاصمة وسوسة وصفاقس، المتحمسين لقضايا الحريات، مؤكّدا أن المحاماة التونسية برهنت في ذلك الوقت على مسؤوليتها في تحمّل واجب الدفاع حسب القيم والمبادئ التي تؤمن بها.
كما تعرّض الى انسحاب المحامين من المحاكمة وإعداد لائحة في التخلّي عن الدفاع عن النقابيين نظرا للجوّ الذي ساد مداولات المحكمة وما لمسوه من مسّ بحقوق الدفاع الأصلية، وتعرّض لسان الدفاع لمضايقات. وأشار من جهة أخرى الى انه تمّ المسّ من مهنة المحاماة بدورها في هذه القضية حيث أصدرت محكمة امن الدولة عقوبات ضد بعض المحامين بناء على الفصل 17 من قانون محكمة أمن الدولة الذي ينص على انه للمحكمة أن تحيل محام ترى انه اخل بنظام الجلسة وتصدر ضده عقوبة تأديبية.
وبيّن السيد إبراهيم بودربالة أن الجو في البلاد بعد محاكمة الاتحاد تميّز بالتشنج الى غاية شهر جانفي 1980 حيث حدث ما سمي بــ "عملية قفصة" والتي حوكم فيها المتّهمون أيضا امام محكمة أمن الدولة برئاسة المرحوم الهادي الجديدي. وبيّن أنه نظرا لتشعّب القضية وعدم وضوح أبعادها، تمّ تسخير مجموعة من المحامين لدى التعقيب من طرف الهيئة الوطنية للمحامين.
وبعد استعراض حيثيات المحاكمة وصدور الاحكام في شأنها، بيّن السيد إبراهيم بودربالة ان تلك القضية كانت استثنائية وتم الترافع فيها بحرفية ومهنية.
كما تحدّث السيد إبراهيم بودربالة عن محاكمات الجماعة الإسلامية وأحداث الخبز وغيرها من الاحداث التاريخية الكبرى التي شهدتها البلاد، مبرزا الدور الهام الذي اضطلعت به المحاماة في مختلف المراحل وقيامها بدورها على الوجه المطلوب، وما تحلّت به المحاكم من احترام للإجراءات.
وأكّد الحاجة الاكيدة الى التقييم الصحيح والموضوعي والاستئناس بالتجارب السابقة التي اتسمت في فترات معينة بالعقلانية، مؤكّدا قدرة تونس على تجاوز الصعاب بحكم ما تزخر به من كفاءات ونهضة تربوية وبتضافر المجهودات لخدمة المصلحة العليا للوطن.
وبيّن في الختام ايمانه العميق بنبل رسالة المحاماة، فالمحامي يدافع عن الموكّل الانسان وليس عن الجريمة.
وكان السيد خالد عبيد منسّق محاضرة اختتام السنة الجامعية المعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر، بيّن في البداية الأهمية التي يكتسيها هذا اللقاء، مبرزا ما يقوم به المعهد من عمل يهدف الى التعمّق في مختلف المراحل التاريخية التي مرت بها تونس والوقوف عند الاحداث الكبرى والاستماع الى شهادات من عاشها، بما يسهم في إثراء الرصيد التاريخي ويسهّل عمل الباحثين