مجلس نواب الشعب ينظّم ندوة حول "سنّ التشريع والنّظام العام"

نظّمت الأكاديمية البرلمانية لمجلس نواب الشعب، اليوم الإربعاء 18 جوان 2025، ندوة حول "سنّ التشريع والنّظام العام" أشرف عليها السيد إبراهيم بودربالة رئيس مجلس نواب الشعب وحضرها نائب رئيس المجلس السيد الأنور مرزوقي، وعدد من النواب، وكلّ من الأستاذ كمال شرف الدين، والأستاذ منصف بوقرّة، والأستاذ نعمان الرقيق.
ورحّب رئيس مجلس نواب الشعب في مستهلّ كلمته بالأساتذة المشاركين في هذه الندوة، مذكّرا بتاريخ كلية الحقوق التي ساهمت من موقع طلائعي في تركيز أسس دولة القانون والمؤسّسات. واعتبر أنّ مفهوم النّظام العام مرتبط عضويّا بسنّ التشريعات وهو ما دفع مجلس نواب الشعب إلى تنظيم هذه الندوة باعتباره الوظيفة التشريعية الموكول لها سنّ القوانين ومراجعة التشريعات حتى تتلاءم مع مقتضيات العصر.
وقدّم الأستاذ كمال شرف الدين مداخلة حول "مفهوم النظام العام "، حيث أوضح أنّ المشرّع التونسي، على غرار عديد المشرّعين، لم يعرّف النّظام العام عمدا حتى لا يحبس نفسه في تعريف محدّد يجعل التأويل مسألة معقّدة وتخضع لمجموعة من الإجراءات التشريعية والقانونية الدقيقة.
وبيّن أنّ النّظام العام، لغة، هو مجموعة القواعد الآمرة التي لا يجوز للأفراد مخالفتها سواء كانت مضمّنة بنصّ تشريعي أو غير مضمّنة به، مضيفا أنّها قواعد مقرّرة للموجبات الأساسية السياسية والاجتماعية التي يتطلّبها تنظيم المرافق العامة أو ضمان الأمن والأخلاق أو تحقيق سير دواليب الاقتصاد.
أمّا في الجانب الفقهي، فقد بيّن أنّ الشرّاح اختلفوا في تعريف النّظام العام وهو ما يدلّ على صعوبة هذه العمليّة. واعتبر أنّ وجوده ليس محلّ جدل، بل أنّه من ثوابت كلّ نظام قانوني، ذلك أنّ قواعد النّظام العام هي مجموعة الأحكام الآمرة التي لا يجوز للأطراف أو السلط تغييرها أو التصرّف في مضمونها.
وأكّد الأستاذ شرف الدين أنّ المقصود بقواعد النّظام العام الداخلي هي جملة القواعد القانونية التي تمثّل الأهداف التشريعية العامة ومقاصدها، وهي تهدف إلى ضمان العدالة والأمن. ومن ضمن هذه القواعد تلك المنظّمة للسلطة وللعلاقات بين السلط وكذلك القواعد الدستورية المحدّدة للنّظام السياسي وقواعد القانون الجزائي والتنظيم القضائي، وكذلك قوانين العملة والصرف والقانونين المنظّمين للأسرة.
وأوضح الأستاذ كمال شرف الدين أنّ النّظام العام تطوّر عبر الزمن، حيث ظهر في مدلول أوّل تقليدي سياسي اجتماعي مؤسساتي في القرن 19، ثمّ في مدلول ثان اقتصادي خلال القرن 20، قبل أن يتطوّر بشكل متّصل بالحريات والحقوق الأساسية في الفترة الحديثة. وبيّن أنّ النّظام العام التقليدي السياسي والمؤسّساتي يشمل القواعد الدستورية والإدارية والجبائية والجزائية وقانون العائلة، معتبرا أنّ هذا المفهوم يتّسم بالوحدة والانسجام ويعني جملة المبادئ الأساسية في المجتمع. وأضاف أنّ النّظام العام الاقتصادي يتّسم بالتنوّع ويخرج عن محيط المسائل التقليدية ليشمل المجال الاقتصادي والاجتماعي، وهو مفهوم متجدّد وتشريعي بالأساس ويتطابق مع التوجّه بأنّ التشريع أصبح يميل إلى الخوض في كل التفاصيل خاصة في المادّة الاقتصادية والاجتماعية. وأمّا النّظام العام الدستوري فهو يتّصل بضمان الحقوق الأساسية التي نصّ عليها الدستور وكرسها وذلك مثل ما ورد في الفصول 22 إلى 54.
واختتم الأستاذ شرف الدين مداخلته بالتطرّق إلى دور المحكمة الدستورية في رقابة الضوابط باعتبار أنّها تختصّ بالنّظر في مراقبة دستوريّة القوانين، والمعاهدات التي يعرضها عليها رئيس الجمهوريّة قبل ختم القانون الموافقة عليها، والقوانين التي تحيلها عليها المحاكم، والنّظام الدّاخلي لمجلس نوّاب الشّعب، والنّظام الدّاخلي للمــجلس الوطني للجهــات والأقاليم، وإجراءات تنقيح الدّستور ومشاريع تنقيحه.
ثمّ قدّم الأستاذ المنصف بوقرة، مداخلة حول "النّظام العام العائلي من خلال مؤسسة الزواج"، أبرز في مستهلّها أهمية الدقة في الصياغة التشريعية، باعتبار أنّ النصوص القانونية لا تُبنى على مجرد كلمات بل على مصطلحات قانونية تختزل معاني متفق عليها من أهل الاختصاص. وبيّن أنّ النص التشريعي هو، في جوهره، إجابة دقيقة على سؤال يطرحه المشرّع على نفسه، وعلى القاضي أن يُطبّقه بالصرامة اللازمة، حتى لا تُفهم مضامينه أو تُنفّذ بشكل مختلف من محكمة إلى أخرى.
وفي معرض تحليله لتطوّر مصادر الحق، أشار إلى أنّ التصنيف كان ثنائيًا في البداية، يقسّمها إلى واقعة وعقد، إلى أن ظهرت المؤسسة كمصدر ثالث، أكثر تعقيدًا وأهمية، إذ تمثّل الاتفاق بين طرفين على إنشاء وضعية قانونية دائمة بينهما. وبهذا المعنى، تُعتبر المؤسسة أرقى من العقد.
وانتقل الأستاذ بوقرة إلى تعريف مؤسسة الزواج، متوقفًا عند كيفية تنظيمها في عدة تشريعات عربية. وأثار سؤالا جوهريًا حول طبيعتها: هل الزواج عقد أم مؤسسة؟، وقد رجّح الطرح الثاني، معتبرًا أن الزواج يتجاوز منطق التعاقد، ليُؤسس وضعية قانونية تتطلّب شروطًا وإجراءات دقيقة.
وأوضح أنّ إبرام الزواج يمر عبر مرحلتين رئيسيتين، تخصّ المرحلة الأولى الطرفين نفسهما، وهي مرحلة الإعداد لعقد الزواج من خلال استيفاء كافة الشروط التي نص عليها المشرّع، مثل بلوغ السنّ الأدنى القانوني، وتقديم الشهادة الطبية السابقة للزواج، والتأكّد من عدم وجود موانع قانونية، سواء كانت موانع مؤبدة أو مؤقتة، وكل زواج يُبرم دون احترام هذه الشروط يُعدّ باطلًا. وبيّن أنّ المرحلة الثانية تتمثّل في إبرام الزواج أمام مأمور عمومي، حيث يُعبّر الطرفان عن رضائهما الحر والصريح، الذي يُعدّ المدخل القانوني إلى هذه المؤسسة.
واعتبر أنّ جوهر مؤسسة الزواج يتمثّل في التزامات وواجبات ذات طابع مدني وجزائي، إذ لا يُعدّ الزواج مجرد علاقة شخصية بل رمزًا لـلشرعية القانونية والاجتماعية، يحظى باعتراف القانون والمجتمع والشرائع السماوية والأعراف والتقاليد.
وبيّن الأستاذ منصف بوقرة أنّ الزواج، بخلاف الوفاة، لا يُمكن حلّه إلا بحكم قضائي، ما يُؤكد حرص المشرّع على حماية هذه المؤسسة. وأكّد في هذا الصدد أن المشرّع أوجب إجراء محاولات صلحية قبل النطق بالطلاق، وفي صورة فشلها، يتخذ القاضي جملة من الإجراءات. كما أشار إلى أن الحكم بالطلاق لا يصبح نافذًا تلقائيًا، إذ يمكن لأحد الطرفين الطعن فيه بالاستئناف، وهو طعن يوقف التنفيذ. وإذا صدر حكم استئنافي، يُمكن كذلك التعقيب عليه، ما يُوقف بدوره تنفيذ الحكم، ولا يُعدّ الزوجان منفصلين رسميًا إلا حين يُصبح الحكم باتًا وغير قابل للطعن.
من جهته، قدّم الأستاذ نعمان الرقيق مداخلة حول "النّظام العام الاقتصادي والاجتماعي"، أبرز في بدايتها أنّ النّظام العام ضابط للتشريع ومكوّن أساسي له، فهو يحدّد التخوم التي ينبغي عدم تجاوزها عند صياغة نصّ قانوني. واعتبر أن فنّ التشريع يرتكز أساسا على علم صياغة النصّ القانوني بما يضمن وضوح تركيبته اللغوية وانسجام محتواه بما يجعله قابلا للتنفيذ وجامعا لكي نتجنّب التخمة في النصوص.
كما أكّد أنّ النّظام العام ينقسم إلى نظام عام سياسي وأخلاقي، ونظام عام اقتصادي واجتماعي. وبيّن أنّ هذا الأخير مركّب وغير متجانس ويقوم على الحرية، ولا يتطلّب أيّ تدخّل من الدولة، بل يوجب عليها السعي لإنفاذ أحكامه من خلال وضع برامج وإستراتيجيات وسياسات عامة منسجمة مع مقتضيات النّظام العام الاقتصادي والاجتماعي. واعتبر أنّ النّظام العام الاقتصادي والاجتماعي هو نظام "برنامجيّ"، ويقتضي الجانب الاجتماعي منه توخّي الحذر باعتبار أنّه مكلف ويستوجب على الدولة مصاريف قد لا تكون جاهزة لها.
وأوضح، في سياق متّصل، أنّ التضخّم التشريعي قد يمسّ من الأمن القانوني، باعتبار أنّ الحرية تمثّل جوهر النّظام العام الاقتصادي، وأنّه بفضلها تمّ الانتقال من نظام عام توجيهي إلى نظام عام حمائي للأفراد. واعتبر أنّ فنّ التشريع يبقى مقيّدا للنّظام العام من خلال خصائصه المتمثلة أساسا في التناسب والضرورات.
كما تطرق إلى النّظام العام التنافسي، مبيّنا أنّه يقوم على فكرة المنافسة، ويقرّ بالحرية ويضع شروطها. وأبرز أنّ النّظام العام الاقتصادي هو نظام حمائي، من خلال النّصوص التشريعية التي تكرّس الحرية بمختلف مجالاتها، لا سيما حرية التجارة وحركة المنتوج والخدمات، وحرية التنافس وحرية التعاقد. وأوضح أنّ النّظام العام الاقتصادي يهدف إلى حماية حق الملكية وهو حق لصيق بالإنسان، كما أضاف أنّ النّظام العام الاقتصادي ضمانة للاستثمار، ويتجلّى ذلك من خلال تخلّي الدولة على عدد من المؤسسات لصالح الخواص.
وبيّن أن النّظام العام الاجتماعي يتكوّن من مجموعة نصوص قانونية تهدف إلى حماية فئة مجتمعية معيّنة من خلال إسنادها حقوق اجتماعية حصريّة، تلتزم بها الدولة تجاه مواطنيها. وأكّد أنّ هذا الالتزام يعكس تخلّي الدولة عن دورها الحيادي بهدف تحقيق الإدماج الاجتماعي والعدالة بين المواطنين والمواطنات.
وأوضح الأستاذ نعمان الرقيق أنّ قاعدة التناسب جُعلت لتُعتمد خاصة من قبل المجلس الدستوري عند مراقبته لقانون معيّن قد يفهم منه أنّه يقيّد حقّا من الحقوق الأساسية التي ضمنها الدستور، فالقيد لا يمكن أن يحدث إلا بقانون، وأحكام الأحوال الشخصية والحقوق والحريات مثلا لا يمكن المساس منها إلا بقوانين أساسية.
وخلال النقاش العام، تساءل عدد من النواب عن جدوى تعهّد المحكمة الدستورية بالنّظر في دستورية القوانين السابقة لا سيّما وأن مجلس نواب الشعب بصدد مراجعتها سواء بالتنقيح أو بسنّ قوانين جديدة تتماشى مع مقتضيات تطوّر المجتمع. كما تطرّق آخرون إلى عقود الزواج التي تتطلّب توفير شروط ضرورية على غرار المهر والسنّ القانوني وغيرهما، وكذلك الشهادة الطبية التي ينبغي إرفاقها بتحاليل طبية درء لكلّ المخاطر التي قد تطرأ عند الإنجاب، وهو ما يستوجب، وفق تعبيرهم، تكثيف البرامج التوعوية الهادفة إلى حماية الأسرة والمجتمع.
واعتبر أحد المتدخّلين أنّ حقوق عديد العائلات التونسية يقع إهدارها في أروقة المحاكم، مشدّدا على ضرورة مراجعة المنظومة القضائية لا سيما فيما يتعلّق باختيار قضاة الأسرة، ومعتبرا أنّهم لا يمتلكون الخبرة الكافية للبتّ في قضايا الأسرة في حين أنّها قضايا على درجة عالية من الخطورة ولها انعكاسات مباشرة على تماسك المجتمع والأسرة. ودعا في ذات السياق إلى الوقوف على المؤشّرات المتعلّقة بجدوى الجلسات الصلحية . كما اقترح أحد المتدخّلين التفكير في وضع نص تشريعي يجمع ضوابط الأثر التشريعي.
وفي ختام الندوة، جدّد رئيس مجلس نواب الشعب تقديره وشكره للأساتذة الذين ساهموا في تأثيث هذه الندوة الأكاديمية من خلال مداخلاتهم القيّمة. واعتبر أنّ النّظام العام مسألة أساسية بالنسبة للمشرّع خاصة فيما يتعلّق بمقترحات القوانين الواردة على مجلس نواب الشعب، والتي ينبغي التمعّن فيها بشكل مستفيض.
وأعلن رئيس المجلس أنّ الأكاديمية البرلمانية ستقوم ببرمجة يوم دراسي حول الأمان القانوني والأمان القضائي في قادم الأيام، وذلك نظرا لأهمية هذه المسائل المرتبطة بعملية سنّ التشريعات

الملفات المرفقة :

مقالات أخرى