بمناسبة افتتاح السنة التكوينية الجديدة للأكاديمية البرلمانية، نظّم مجلس نواب الشعب صباح اليوم الأربعاء 20 سبتمبر 2023 يوما دراسيا برلمانيا حول "جريمة إصدار الصك دون رصيد"، أشرف عليه السيد إبراهيم بودربالة رئيس مجلس نواب الشعب، وحضره نائبا رئيس المجلس وعدد هام من النواب والضيوف من قطاعات المحاماة وعدول التنفيذ والبنوك والمؤسسات الصغرى والمتوسطة وتضمّن مداخلة حول هذا الموضوع قدّمها الأستاذ محمد الهادي الاخوة المحامي لدى محكمة التعقيب والأستاذ الجامعي المبرز، تلاها نقاش عام تفاعلي وثري.
وبيّن السيد إبراهيم بودربالة رئيس مجلس نواب الشعب في مفتتح الأشغال أهمية الجانب التكويني في عمل الأكاديمية البرلمانية سواء من حيث ورشات التكوين والتدريب، أو المحاضرات العلمية والأكاديمية التي سيقع تنظيمها وستتناول مختلف مجالات الوظيفتين التشريعية والرقابية باعتبارها قوام صلاحيات مجلس نواب الشعب حسب مقتضيات الدستور. ودعا الى مزيد الاعتناء بهذا العمل التكويني لما له من أثر إيجابي في آداء النواب والرفع من مستوى مناقشة مشاريع القوانين التي ستعرض على المجلس أو ممارسة الصلاحيات الرقابية على عمل الحكومة. وأضاف أنّه وفق دستور 25 جويلية، تقوم الوظيفة التنفيذية بدورها، وتسهر الوظيفة التشريعية على ممارسة صلاحياتها بكل استقلالية وتحرص على التناغم الإيجابي مع الوظيفة التنفيذية دون أن تكون صندوق بريد لها. وشدّد في هذا الصدد على أن النواب سيقومون بدورهم التشريعي والرقابي حسب الوكالة التي أسندها لهم الشعب لتحقيق الغاية السامية المتمثّلة في خدمة مصلحة الوطن وإرضاء الشعب وضمائرهم بعد رضاء الله، مع السعي الى آداء الأمانة على أحسن وجه للخروج بالبلاد من هذا الوضع. وبيّن أن تونس بحكم إمكانياتها وإطاراتها وطموح شعبها، تستحق مكانة أفضل ووضع أحسن مما هي عليه، مؤكّدا الاستعداد للعمل على أن يكون مجلس نواب الشعب في مستوى هذه الطموحات. وثمّن رئيس مجلس نواب الشعب في ختام كلمته موضوع "جريمة الصك دون رصيد" الذي تمّ اختياره لافتتاح السنة التكوينية الجديدة للأكاديمية البرلمانية، مؤكّدا حساسيته واهتمام مختلف الأطراف به. وشدّد في نفس السياق على أن ما يهمّ المجلس هو دراسة القانون المتعلّق بهذا الموضوع دراسة عميقة بهدف تحقيق نتيجة تشريعية تخدم المنظومة القانونية للبلاد.
وألقى الأستاذ محمد الهادي الاخوة المحامي لدى التعقيب والأستاذ الجامعي المبرز، مداخلة استهلها بتساؤل" هل من إبقاء على جريمة الصك دون رصيد؟".
وقدّم قراءة قانونية تحليلية حول أحكام الفصل 411 من المجلة التجارية، المتعلق بهذه الجريمة. وبيّن أنه تمّ تنقيح التشريع المتعلّق بإصدار الشيك عديد المرات خلال سنوات 1985و1996و2007، مؤكّدا أن المشرّع قدّم عديد الضمانات للتعامل بالشيك لاسيما المتعلقة بالضمان الجزائي. كما بيّن أنّ المشرّع فضّل التعامل بالشيك على بقية السندات القانونية للدين لتحقيق ضمان خلاصه، مع تسليط عقوبات جزائية صارمة عند عدم الوصول الى النتيجة المرجوّة أي خلاص الشيك أو قسط منه. ثم تساءل عن مدى نجاح المشرّع وعن إمكانية وضع حد للتجريم مع توفير ضمانات أخرى للشيك في نطاق مدني. وبيّن أن عديد البلدان المتقدّمة ذهبت الى إلغاء الصبغة الزجرية منذ نصف قرن، مضيفا أن الوقت حان للبحث في هذه المسألة ومحاولة تقوية الضمانات في الميدان المدني بالنسبة للديون التي تخصّ الحكم في شيك لم يقع خلاصه. وأكد في السياق ذاته أن التجريم في هذا الخصوص يتّصف بالصرامة أحيانا وبالإهمال وخرق القانون أحيانا أخرى، موضحا ان الصرامة جعلت معاقبة الجاني تكاد تكون آلية عند معاينة توفّر أركان الجريمة. واعتبر أن المحاكم في بعض القضايا انحرفت في مفهوم الشيك دون رصيد وشروط صحته بتعلّة استقلال الميدان الجزائي عن المدني، فكل ميدان له تعريف لهذ السند. وبيّن أنّ مظاهر التشدّد في العقوبة الزجرية يمكن أن يعتريها نوع من التراجع بمجرّد معاينة المحاكم لخلاص المؤونة والمصاريف أو تأمينها حتى خارج نطاق التسوية القانونية. واعتبر أن الصرامة تشوبها بعض الثغرات تصل الى خرق القانون والحكم ببطلان الإجراءات شعورا من المحاكم بقساوة العقوبة في مثل هذه الجرائم الاقتصادية. وأفاد أن فقه القضاء وأعمال النيابة العمومية تصدّت في التطبيق في بعض الأحيان الى العقاب في جريمة شيكات الضمان من منطلق انساني. وأوضح أن تتبع الجريمة يكون من الصعب أخلاقيا في بعض الأحيان ونتيجة لذلك يسقط حكم هذه الجريمة وهو ما أدّى الى تكاثر صكوك الضمان وذلك يتعارض مع الطبيعة القانونية للشيك. وأكّد في ذات السياق معاينة انحراف بطبيعة الشيك من آداة خلاص الى آداة قرض وضمان، بما انجر عنه اكتظاظ المحاكم والسجون. وبيّن ان كل المحاكم الابتدائية خصّصت لها دوائر لا تنظر الا في قضايا الشيك بدون رصيد، داعيا الى أهمية التخلّص من هذا الاكتظاظ القضائي واكتظاظ السجون الذي يكلف الدولة أموالا باهضه. واختتم الأستاذ محمد الهادي الأخوة مداخلته بدعوة جميع الأطراف المتدخلة الى التفكير في الغاء العقوبة السجنية في حال عدم الخلاص وتعويضها بعقوبات أخرى. كما قدّم جملة من المقترحات يمكن ان تكون حلولا بديلة تكرّس التتبع المدني وتدعمه. واقترح في نطاق التضامن وعلاوة على ما ورد من قواعد طبقا للفصل 390 وما بعده من المجلة التجارية تضامن كل الممضين عن الشيك مع الذات المعنوية في خلاص معلومه باعتبار ان كثيرا ما يختفي الشخص الحسي وراء الذات المعنوية. كما اقترح في نطاق سقوط الدعوى بمرور الزمن إمكانية نزع السقوط عن الدعوى المدنية في مادة الشيك حتى يبقى لهذا السند امتيازا خاصا وفريدا بالنسبة لكل السندات الأخرى. أما في مسألة سقوط تنفيذ الحكم بمرور الزمن، فقد دعا الى عدم سقوط تنفيذ الحكم أو الامر بالدفع حتى بعد مرور 20 سنة ليبقى سيفا مدنيا مشهورا على المدين ويحرمه من اكتساب أي ملك الى حد خلاص ما تخلّد بذمته. كما اقترح في نطاق الدعوى البليانية تمكين الدائن من تتبع دينه على أملاك المدين حتى وإن فرّط فيها، مبيّنا أن الهدف من هذا الاجراء هو اثبات التواطؤ بين المحيل والمحال عليه. و أكّد في خلاصة قوله أنّ تكريس الدعوى المدنية مع تقدّم العلم يمكن أن يكون حلا لكل مشاكل الشيك بدون رصيد بمطالبة المستفيدين من هذا السند بعدم القبول بخلاصه بهذه الوسيلة الا إذا تثبّتوا من توفّر الرصيد وهي الوسيلة المستعملة بالنسبة لبطاقات الخلاص مع بعض الاختلافات. وخلص الى أن تطبيق هذه الطريقة يمكن أن يقلّص من نفقات الدولة وإهدار الأموال في القضاء وفي السجون. واعتبر ان بعض المقترحات الإصلاحية لن ترضي المتمعّشين من جريمة إصدار الصك دون رصيد، مؤكّدا أن المصلحة الاجتماعية والاقتصادية تقتضي ذلك.
وقد شفعت هذه المحاضرة بنقاش حول موضوع تجريم الشيك دون رصيد، قدّم خلاله الضيوف والنواب آراءهم ومقترحاتهم في هذا الصّدد. ودعا المتدخّلون الى مراجعة منظومة التقاضي، الى جانب التفكير في إعطاء المنظومة المدنيّة النجاعة اللّازمة. كما وجّهوا عديد الانتقادات للبنوك مع تحميلها المسؤوليّة من حيث التثبّت قبل اسناد دفاتر الصكوك وضرورة القيام بالمتابعة اللّازمة. واعتبرها البعض مستفيدة من تجريم الشيك بدون رصيد باعتبار المبالغ المالية الكبيرة التي تجنيها من وراء اجراء الاشعار. كما تمّ انتقاد الشروط المجحفة التي تفرضها البنوك على أصحاب المؤسّسات الصغرى والمتوسطة من حيث إسناد القروض والتسهيلات المالية، مع الحث على مراجعة شروط ومعايير اسنادها للتصدّي للوسائل الموازية. كما لاحظ عدد من المتدخّلين أن الاشكال يكمن في الحياد بالوظيفة الأساسيّة للشيك ليتحوّل من أداة خلاص الى وسيلة ضمان، وفي هذا السياق، حمّل المتدخّلون جانبا من المسؤوليّة الى المستفيد ودعوا الى التصدي لظاهرة مسك الصكّ من باب الضمان. ودعوا من جهة أخرى الى ضرورة تفعيل الشيك كوسيلة دفع حينيّة مع التفكير في وسائل بديلة على غرار تطبيقة تمكّن المستفيد من التثبّت من توفّر المبلغ موضوع الشيك، مستندين في ذلك الى بعض التجارب المقارنة.
وقدّم الحاضرون في مداخلاتهم جملة من الاقتراحات الفعليّة في علاقة بالتعامل بالشيك، من ذلك تفعيل الصك الالكتروني ومراجعة مؤسسة الضمان والتمديد في فترة التسوية والتخفيض في الفوائض والغرامات وربط الجريمة بالتسوية لتكون هذه الاخيرة موقفة للتتبع، الى جانب نشر ثقافة اعتماد وسائل الائتمان، بالإضافة الى التفكير في الأثر الرجعي لإلغاء العقوبة السجنيّة ليسري على المحكومين. كما تمّ التطرق الى حلول وقائية يلعب فيها البنك المركزي دورا أساسيا على غرار تركيز نظام تبادل معلومات والعمل على التحرّي الشديد قبل منح دفاتر الشيكات، مع التفكير في اعتماد تصنيف لدفاتر الصكوك حسب مداخيل صاحب الحساب البنكي وامكانياته المادية. هذا وتمّ اقتراح أن يكون القانون المنقح للفصل 411 من القوانين التجريبيّة، أي أن يكون نافذا لمدّة محدّدة ثمّ يخضع للتقييم والتحرّي في مدى نجاعته، مع الابقاء على التجريم في ما يتعلّق بصيغ التحيّل، ومراجعة كل التشريعات المتعلّقة بالأوراق التجاريّة وتطويرها.