نظّمت الأكاديمية البرلمانية لمجلس نواب الشعب صباح اليوم الاربعاء 19 فيفري 2025 يوما دراسيا برلمانيا تحت عنوان : " تقنيات صياغة النص التشريعي من أجل جودة تشريعية" ، أشرف عليه السيد إبراهيم بودربالة رئيس مجلس نواب الشعب، وذلك بحضور السيد الأنور المرزوقي نائب رئيس المجلس، و الاستاذ محمد حمودة دكتور دولة في القانون الخاص، وأستاذ جامعي مبرز بكلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس، والاستاذ منير الفرشيشي، القاضي، ومدير عام مركز الدراسات القانونية والقضائية، الى جانب عدد هام من النواب والضيوف .
وثمّن السيد إبراهيم بودربالة رئيس مجلس نواب الشعب في مفتتح الأشغال مبادرة الاكاديمية البرلمانية بتنظيم هذا اليوم الدراسي الذي يتنزل في صميم عمل المؤسسة البرلمانية ويهدف الى تعميق النظر في أساليب وآليات صياغة النصوص التشريعية .
ثم قدّم الاستاذ محمد حمودة، عرضا عن فن صياغة النص التشريعي. وأكّد أنّ كتابة القانون هي التعبير عن الفكر القانوني بواسطة نظام متفق عليه، وهي اقتران لروح التشريع مع الذوق القانوني.
وأبرز أن فنّ كتابة النصّ القانوني بالنسبة الى المشرع هو فن التفكير في حاجيات المجتمع والآليات الكفيلة بتأمينها، باعتبار أن المشرع هو ترجمان لسيادة الشعب والقانون وهو تعبير عن الإرادة العامة، مضيفا ان الفنّ التشريعي هو امتداد للوظيفة التشريعية وأن القاضي يقول كلمة القانون ويعمل الرأي فيها ويحسم النزاعات، و أن القانون هو مصدر القرار.
ثم تطرّق الى الجمهور المستهدف من القانون، مبيّنا أن الافتراض البديهي يقر بأن القانون موجّه للكافة باعتبار أنه " لا يعذر جاهل بجهله للقانون". وأضاف أنّ هذا الافتراض يبدو غير سليم لا سيما عندما تكون النصوص القانونية مثقلة بالتفاصيل وبالتراتيب المعقدة، ومعتبرا أن طبيعة التشريع تقتضي أن يكون النص تقنيا وموجّها للمعنيين بالمادة القانونية.
وأوضح أن فن كتابة القانون تندرج في هذا السياق، وهي إدراك ما يمكن وما يجب تفسيره للعموم وما يتوجه إدراجه في صياغة دقيقة وصارمة خاصة للمعنيين بالشأن القانوني.
وبيّن أنّ النصوص القانونية المعقّدة تستوجب التنقيح قصد التوضيح لإثرائها أو لترميمها مما قد يوحي بوجود قصور في تصوّر وبناء النص القانوني في البداية، مستشهدا في هذا الصدد بالقانون المكرس للأثر المنشئ للترسيم، وبقانون إسناد اللقب للأطفال مجهولي النسب، وقانون إنقاذ المؤسسات التي تمر بصعوبات اقتصادية. وأشار من جهة أخرى الى وجود نصوص تتضمن، رغم خصوصيتها، فصولا تتسم صيغتها بالاقتضاب والدقة، وتعبر عن أفكار واضحة مثل مجلة الالتزامات والعقود.
وبين في سياق اخر ان نفس النصوص القانونية يمكن أن "تسافر "من نص الى آخر مثل التي نجدها في مجلة الالتزامات والعقود ومجلات أخرى كمجلة الحقوق العينية.
واعتبر انّ النص القانوني يتحدث أحيانا بلغة يسيرة وسهلة التقبل من قبل الجميع ويصاغ أحيانا أخرى في لغة تتميز بالصرامة والدقة وتعبر عن مفاهيم ومبادئ وقيم في كلمات مختصرة ولغة متميّزة تترجم إبداع المشرع، مستشهدا بالفصلين 242 و 243 من مجلة الالتزمات والعقود. وشدّد على أهمية اختيار المشرع للمصطلحات وانتقائها بما يضفي عليها الدلالات التي تؤّمن الوظيفة المحدّدة للنص القانوني، معتبرا في المقابل انه يمكن للمشرع اعتماد "فن الصمت في الكتابة القانونية ".
وبيّن أن القانون يتضمّن بعدا أدبيا باعتبار أن تعاقب الفصول وترتيبها يقتضي اعتماد "المحسنات البديعية " الملائمة للمبدإ مع الاستثناء، ومقتضيات الشكل مع موجبات الأصل، وهو ما يبرز فن الصياغة وفن التفكير عند كتابة النص القانوني .
واستعرض الدكتور محمد حمودة أهمية فن التفكير في القانون ولا سيما التصميم أو التصوّر للنص القانوني معتبرا انه عمل جرئ. واستعرض الخطوات العملية في مجال التصوّر القانوني والتي وصفها "بالمهيئات" و"المتممات" معتبرا أن الفن يحتضن الجانب الحسّي بينما يتنزل القانون في المجال العقلاني .
وشدد في هذه المرحلة على أهمية القدرة على فهم الأساسيات وامتلاك ملكة التعبير بشكل جيد مع انتقاء الكلمات والمصطلحات المناسبة عند التفكير في صياغة التصور القانوني، الى جانب ضرورة المواءمة بين التحديات المتعددة والمصالح المختلفة . كما أبرز أهمية التوافق في الطبيعة القانونية والتوق للتحسين والمثالية في تصوّر القاعدة القانونية. مستشهدا بمقولة الأستاذ في القانون "فيليب جاستاغ "الذي يعتبر ان القانون "فن الحلول وليس مجرد مجموعة من القواعد".
كما أشار في الجزء المتعلّق "بالمتممّات" الى أهمية الحرص على صياغة النصوص الضرورية بشكل واضح وسليم، بما يسهم في تحسين مضمون القانون، فضلا على أهمية فن التصميم عبر تحديد الإشكال وتحليل الوضع الواقعي والأهداف المرجوة، الى جانب تصوّر الحلول الملائمة، و التقييم الاستباقي للحلّ التشريعي المقترح.
وتطرق الدكتور محمد حمودة في الجزء الثاني من المبحث المتعلق بفن التفكير في القانون الى مسألة التنظيم معتبرا انها مهمة عسيرة تتضمن عنصري الترتيب و المواءمة.
و أشار بخصوص الترتيب الى أهمية ترجمة الأفكار و تنظيم القيم، مبيّنا ان ترجمة الأفكار تكون في بعديها النقل من لغة لأخرى والتعبير عن تطلعات المواطن . واعتبر أن التصور والتفكير في القانون التونسي يتم وفق منهج أجنبي بما ان النصوص كانت تصاغ بالفرنسية ثم تعرب مما ولد إشكالا في المصطلحات . كما أشار الى أهمية تنظيم القيم وترتيبهاولاسيما المتعلّّقة بالعدالة والأمن القانوني .
أما في الجانب المتعلّق بالمواءمة بين القواعد القانونية لخدمة المصالح المختلفة فقد اعتبر أنها تتجسد عبر الحفاظ على نجاعة النص القانوني مع الحرص على صياغة المفاهيم والمصطلحات بدقة والعمل من أجل استدامة القانون. كما تطرّق الى أهمية الشحنة الدلالية وتحوّل القانون مع الزمن باعتباره مرنا ويجب أن يحافظ على معناه الموحد والمستقر ، مبينا ان استدامة النص القانوني لا تعني جموده وعدم قابليته للتطور .
وفي الجزء المتعلق بفن صياغة القانون، شدد الدكتور محمد حمودة على أهمية الجمالية والأسلوب الراقي للنص القانوني وذلك عبر الوضوح والسلاسة و البساطة والحزم.
وأوضح انّ الرصانة المطلوبة. تتجسّد عبر الصرامة في انتقاء المصطلحات وتحديد المفاهيم .واعتبر أن تألق النص القانوني وبريقه يتجسّد عبر الوضوح من ناحية وإمكانية الوصول للنص من ناحية أخرى .
وبين ان نجاعة النص القانوني وضمان الأمن القانوني يستوجبان أن تكون القاعدة القانونية واضحة ودقيقة وخالية من الغموض، ومتناسبة مع الأهداف المتصلة بالمصلحة العامة، ومتوافقة مع مقتضيات الدستور والمعاهدات الدولية والمبادئ العامة للقانون.
وأكّد في ختام مداخلته ان سن القوانين يستوجب إعمال العقل والصياغة الجيدة تستوجب استحضار الفن .
من جهته قدّم الاستاذ منير الفرشيشي، القاضي، ومدير عام مركز الدراسات القانونية والقضائية، عرضا حول طرق صياغة النص التشريعي، بيّن في مستهله أنّ عملية التشريع تتطلّب عدم الاستهانة بالنص القانوني الذي يعد بناؤه مهما وخطيرا. ودعا الى ضرورة التفريق بين المبادرة التشريعية التي تعدّ لب التشريع، وصياغة النص القانوني التي تعدّ مسألة تقنية. كما أشار الى عدم وجود قواعد متفق عليها مصنفة في كيفية الصياغة التي تعتبر في نهاية الأمر مسالة تعوّد وممارسة واكتساب للقدرات وتطويرها. وأشار كذلك الى غياب المراجع الاساسية الموحّدة في الصياغة القانونية، مشيرا الى وجود طرق متنوعة وتجارب مختلفة، والى ارتكازها على مسألة فلسفية تتعلّق بالتساؤل هل أن الصياغة من اختصاص المشرّع ام تقني الصياغة. وأشار في هذا الصدد الى التجربة السويسرية التي انشات كليات وشهائد في علاقة بهذه المسألة وتعدّ مقياسا في صياغة القوانين.
وبيّن أنّ النصوص القانونية في تونس جيّدة، لكنها تتغير بحكم أن آفاق التشريع لا تتوقف عند حد كتابة النص بل ترتبط بالمجالات الاقتصادية والسياسية والقضائية باعتبار ان القانون يصاغ ليطبّق. وشدّد على احترام نيّة المشرع من قبل جميع المعنين بالتطبيق، وهو ما يترجم أهمية مسألة الصياغة القانونية. وأبرز من جهة أخرى ضرورة ان يكون للنص القانوني معنى وحيدا يحدّده المشرع من خلال عباراته، مبيّنا أهمية اللغة في الصياغة القانونية التي يجب أن تكون واضحة ضمانا لصحة القانون.
وأكّد المحاضر أن العملية التشريعية هي مسار وعقلية ترتبط بمراحل يتصل أولها بأخذ المشرع بعين الاعتبار للمراجع الملهمة للتشريع، وللقواعد العامة وتقنيات الصياغة.
وأضاف ان النقطة الثانية ترتبط بأن النص القانوني هو جملة من الفصول وهو عملية بناء يجب الاخذ فيها بعين الاعتبار مسألة تقديم او تأخير فصل على اخر ، مشيرا في هذا الاطار الى ما ورد في مجلة الأحوال الشخصية فيما يتصل بمسألة المواريث، ومؤكّدا أن مسالة البناء تقوم بالأساس على مواقع الفصول وترتيبها في النص القانوني .
ثم تطرق الاستاذ منير الفرشيشي الى مسألة تمتين النص القانوني وقوّته، مشيرا الى أهمية شرح الأسباب ودراسة تداعيات تطبيقه التي تراجع اعتمادها في السنوات الأخيرة. كما استعرض القواعد العامة للقانون لاسيما قاعدة الأمان القانوني وكذلك النفاذ السهل الى القانون، إضافة الى مراجع أخرى تتمثل في المصادر التي يجب اعتمادها لارتباطها بهذه القواعد العامة .
ثم تطرق الى مسألة التحرير والقواعد والتقنيات الواجب اتباعها والتي تتلخص في الدقة والتناغم والصبغة التشريعية ، وتجنب الغموض والابتعاد عن التردّد. وأكّد في هذا الاطار أهمية مسألة التناسق، واعتماد قائمة المراجع والاستطلاعات مع دراسة تأثيرات استعمالات بعض المصطلحات .
كما تناول مسالة تقنيات كتابة النصوص القانونية التي يجب أن ترتكز على قواعد اللغة وعرف الاستعمال، مشيرا في هذا الصدد الى أشكال الجمل، والأدوات اللغوية، والمفاعيل، ومؤكّدا ضرورة الابتعاد عن الجمل الوصفية والاستفهامية واعتماد الجمل التقريرية التي تكون اسمية او فعلية بحسب المعنى التشريعي ، حتى يكون النص القانوني واضحا وبسيطا ومقتضبا على غرار مجلة الالتزامات والعقود.
كما تناول المحاضر مسألة بناء النص القانوني، مشيرا إلى تنقيحات بعض الفصول من مجلات معينة ومشددا على ضرورة ادراجها في المجلة المعنية في أقرب وقت من تنقيحها بالنظر الى وجود عديد التنقيحات من هذا النوع التي لم يقع ادراجها في المجلة المعنية.
كما أشار من ناحية أخرى الى أهمية وضوح المصطلحات المستعملة ودقّتها حتى تتماشى مع متطلبات النصوص القانونية الأساسية لتفادي التناقض والغموض، عبر توظيف لغة سليمة وصحيحة.
وأشار في نهاية مداخلته الى أهمية العمل التشاركي في صياغة النصوص القانونية والاستنارة بآراء الخبراء والمختصين والهياكل المتدخّلة في مختلف مراحل سن القانون، وجدّد التأكيد على ضرورة ارفاق النص القانوني بشرح الأسباب إضافة الى مسألة دراسة الابعاد القصدية وجدوى النصوص القانونية ودراسة التأثير و الانتظارات بما يوفر نجاح التشريعات ويضمن جدواها.
وفي مستهلّ النقاش العام ثمّن النواب هذا اليوم الدّراسي الذي يندرج في إطار تدعيم قدراتهم في صياغة النصّ التشريعي، كما أثنوا على القيمة العلمية والعملية للمداخلتين.
وتمّت الإشارة إلى أهميّة تدعيم قدرات النواب في مجال تنقيح القوانين واقتراح أن تكون مثل هذه الأيّام الدّراسيّة التقنية دوريّة ومشفوعة بورشات عمل تطبيقيّة وورشات تفكير.
كما تطرق النواب إلى مميّزات النصّ القانوني الذي يجب أن يكون موجزا ويعالج اشكاليّة معيّنة ويتّسم بالاستمراريّة في التاريخ، والى منهجيّة صياغته ، واعتبروا أن النصّ القانونيّ لا يختلف عن أي عمل ابداعيّ يحتاج إلى الاجتهاد القانوني واللغوي.
كما طرحوا جملة من الملاحظات المتعلّقة بمشاريع القوانين الواردة من الحكومة حيث بيّنوا غياب الاجتهاد في صياغة وثيقة شرح الأسباب التي تصاحب المشروع وغيابها في بعض الحالات، بالاضافة إلى غياب دراسة الجدوى التي تعتبر ذات أهمية قصوى عند صياغة النصّ القانونيّ وتحديد تأثيراته وتداعياته على المستويات الوطنية والإقليمية والدّولية.
هذا وتمّ التّأكيد على أهميّة وجود بعد استراتيجي في التشريع، مع الإشارة في نفس الاطار الى الدّور الهامّ للتنافس في جاذبيّة القاعدة التشريعية خاصة في مجال الاستثمار. ودعا المتدخّلون إلى اعتماد طريقة حوكمة جديدة تستند أساسا إلى مقاربة تشريعية تشاركيّة مع الوظيفة التنفيذيّة. كما تمّ، في هذا السياق، اقتراح تكوين لجنة تفكير مكونة من أساتذة قانون تعاضد جهود النواب في المجال التشريعي من خلال العمل على تجويد الصياغة القانونيّة. بالاضافة إلى اقتراح اقامة اتفاقيات تعاون مع مخابر البحث في المجال القانوني.
وأثار عدد من النواب اشكال التضخّم القانوني وتشتّت النصوص القانونيّة، مؤكّدين ضرورة إيجاد الحلول اللّازمة لتجاوزه . وتمّت الإشارة ، من جهة أخرى، إلى بعض الصعوبات التي تواجه النواب مثل غياب المرافقة في صياغة نصوص مقترحات القوانين من قبل المختصين .
وطرح عدد من النواب مجموعة من الأسئلة التقنيّة المتّصلة بموضوع هذا اليوم الدّراسي على غرار امكانيّة استباق القاعدة السلوكيّة من عدمه، ومدى جدوى القوانين الاستثنائيّة، بالإضافة إلى اقتراح وضع دليل خاص باصدار القوانين.
وفي ختام النقاش، أشار السيد إبراهيم بودربالة رئيس مجلس نواب الشعب إلى الدورات التكوينية التي نظمتها الأكاديمية البرلمانية السنة الفارطة في مجال صياغة النصوص القانونيّة لفائدة النواب وأمّنتها كفاءات الإدارة البرلمانيّة. كما أعلن عن انشاء اتفاقية تعاون بين مركز الدراسات القانونية والقضائيّة من جهة والأكاديمية البرلمانيّة من جهة أخرى، بهدف مرافقة النواب في دراسة النصوص التشريعيّة وتطوير العمل التشريعي البرلماني.
وقد أثنى الضيفان خلال تعقيبهم على مداخلات النواب، وحرصهم على تدعيم قدراتهم لتطوير عملهم التشريعي خدمة للمصلحة العليا الوطن.
وشدّدا على ضرورة وضع أدلّة اجرائيّة لكتابة النصوص التشريعيّة، مع التوصية بتفادي وضع النصوص الاستثنائيّة والخاصّة، باعتبار أن القاعدة القانونيّة عامة وتصاغ لتنظيم المجتمع بأكمله.
وتفاعلا مع اشكاليّة تشتّت النصوص القانونيّة، تمّت التشديد على أهمية تجميعها . كما تمّ تّأكيد أهميّة البعد الاستراتيجي التّشريعي واعتباره الدّور الرّئيسي للنواب، مع الدعوة إلى ضرورة بلورة تصوّر مستحدث لصياغة النصوص التشريعيّة بما يتلاءم مع المرحلة ولا يكون مرتبطا بأيّ تجارب خارجيّة، ويستند إلى خلفيّة دراسيّة واستشارات مكثّفة.